يُقفل العام 2017 على أزمة اعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهي الخطّة التي لم يتجرّأ أيّ من أسلافه على اتّخاذها .
صحيح أنّ الدافعَ الأكبر لترامب لاتخاذ قراره أزمته الداخلية الخانقة وحاجته إلى حبل نجاة يُعتقد أنّ اللوبي اليهودي الأميركي قادر على تأمينه له، إلّا أنّ حصر الصورة بهذه الزاوية فقط لا يوفي الأبعاد الفعلية لهذه الخطوة والتي تطاول الخريطة الجديدة الجاري رَسمُها للمنطقة.
صحيح أنّ الإدارة الأميركية تلقَّت عدداً من الخسائر بسبب خطوة ترامب، لكنّ الضغط الداخلي على ترامب تراجَع بعض الشيء وكان لافتاً اعتبار أحد المحامين المكلّفين الدفاع عنه أنّ الأزمة في طريقها الى الحلّ، والملف سيجري إقفاله في وقت ليس ببعيد، في وقت أظهر استطلاع لـ»وول ستريت جورنال» أنّ 40 في المئة من الأميركيّين يُؤيّدون البدءَ بإجراءات عزل ترامب.
وفي الخسائر الأميركية، الضربة المعنوية التي تعرَّض لها الدور الأميركي، والتي تجلّت مثلاً في رفضٍ عربي شامل لزيارة نائب الرئيس الأميركي مايك بنس.
وهذا ما أدّى الى تعديل في برنامج الزيارة لمرّتين، ما عكس ارتباكاً لدى المنظّمين خصوصاً مع رفض الأزهر والكنيسة القبطيّة المصرية لقاء بنس على رغم الترتيبات التي كان جرى إعدادُها مسبقاً.
والزيارة كانت مخصَّصة للتركيز على اضطهاد الأقليات الدينيّة في الشرق الأوسط ولمهاجمة المتطرّفين الدينيّين، وهو ما يعني فعلياً السعي إلى نقل الصورة عن ملفّ القدس الى ملفات التطرّف والاضطهاد الديني.
لكنّ أوساط الفريق الرئاسي الأميركي تجاوزت موقف الأزهر ونظرت إليه من زاوية أخرى وعلى أساس أنّ هذا الموقف يُساعد الأزهر في سحب البساط من تحت أقدام التيارات الإسلامية المتطرّفة ومن الإسلام السياسي، وتجعل منه في وقت لاحق صاحب القدرة على استعادة الشارع وتوجيهه في مسارات أخرى.
وفي نيويورك، بدت الولايات المتحدة الأميركيّة في عزلة بعد تصويت الجمعية العمومية للأمم المتّحدة، واعتبرت صحيفة الـ»واشنطن بوست» أنّ الأمم المتحدة وجَّهت توبيخاً حاداً وقاسياً لواشنطن، وأنّ العالم لم يعد يخشى التّهديدات الأميركية، وأنّ العاصمة الأميركية باتت تقف بمفردها للدّفاع عن قضايا غير مؤثّرة. واعتبرت أيضاً أنّ الشرق الاوسط بدأ يخرج من تحت العباءة الأميركية.
وما من شك في أنّ الولايات المتحدة الأميركية تلقّت خسارة قاسية بعد التّصويت في الأمم المتحدة، متجاوزة تهديدات ترامب بمعاقبة الدول التي ستُخالفه من خلال حجب المساعدات المالية عنها.
لكنّ تلويح ترامب بدا غير واقعيّ الى درجة أنّ إليوت أبرامز، وهو يهودي أميركي متطرّف في بعض خياراته وآرائه وكان تولّى مناصب رفيعة إضافة الى مسؤول الشرق الأوسط في الامن القومي أيام إدارة جورج دبليو بوش، اعتبر أنّ تهديدات ترامب غير معقولة لأنّ هذه المساعدات المالية والمخصّصة لعدد من الدول تخدم المصالح الحيويّة للأمن القومي الأميركي.
والمقصود هنا أنّ المساعدات الأميركيّة تأتي نتيجة للتعاون الأمني والسياسي والعسكري والذي يأخذ في الاعتبار المصالح الحيوية الأميركية. أضف الى ذلك أنّ قرار قطع المساعدات يحتاج الى تشريع جديد في الكونغرس.
فمثلاً كيف يمكن تطبيق ذلك على مصر التي تعتبرها واشنطن الشريكَ الاستراتيجي الكبير في المنطقة، والتي تمّ تخصيصُها بهذه المساعدات الضخمة إثر التوقيع على اتّفاق السلام المصري - الإسرائيلي.
لكنّ إدارة ترامب ستعمل على تخفيض بعض مساعداتها الخارجية لتُصبح 11 مليار دولار بعدما كات 14 ملياراً. لكنّ الأهمّ أنّ هذه التخفيضات لا يبدو أنها موضوعة على أساس التصويت في الأمم المتحدة، بل وفق برنامج آخر وهنا بيت القصيد. ذلك أنّ هنالك مَن يعتقد أنّ أزمة القدس تشكّل بوابةً أو مدخلاً لمشروع آخر يطاول وجه المنطقة.
وأصحاب هذا الاعتقاد يشيرون أوّلاً إلى أنّ فريق البيت الأبيض كان يخشى ردود فعل أكثرَ قوة وعنفاً ممّا حصل، ولذلك فهو يرى أنّ الأمور ذاهبة في اتجاهات مضبوطة، وأنّ الفريق الرئاسي الأميركي كان قد وضع مهلة لا تقلّ عن ستة أشهر لاستيعاب كلّ التداعيات السلبية قبل عودة الجميع الى نقطة الانطلاق، وعلى أساس قرار ترامب حول القدس.
ووفق أنصار هذا الرأي، فإنّ ردّة فعل حركة «حماس» بقيَت تحت سقف معقول، لا بل إنّ هؤلاء لاحظوا سَعيَ حركة «حماس» لضبط ردود الفعل العسكرية، وبالتالي للحدّ من إطلاق الصواريخ ووقفها نهائياً.
وحسب أنصار هذا الفريق، فإنّ واشنطن وفي تواصلها مع عواصم عربيّة وخليجية ترى أنّه آن الأوان لإحداث تبديل على مستوى الرئاسة الفلسطينية، بحيث يكون بديل محمود عباس إمّا محمد دحلان أو سلام فياض مع ترجيج الاسم الأوّل، وبالتالي أن يُشكّل ذلك انطلاق مرحلة جديدة من المفاوضات تؤدّي الى إعادة تكريس الخطّة التي ترتكز على دولة فلسطينية تضمّ غزة وجزءاً من سيناء.
وفي موازاة ذلك، ظهرت إشارات عدة توحي أنّ ترتيبات أخرى يجري التحضير لها في المنطقة لتواكب المشروع الفلسطيني المطروح:
• ففي لبنان، ظهر فجأة إحصاء يتحدَّث عن تراجع كبير غير مفهوم وغير منطقي لأعداد اللاجئين الفلسطينيّين، ما يُسهّل فكرة توطينهم لاحقاً. وكذلك الانخفاض الكبير الذي طرأ على أعداد النازحين السوريّين ما يؤدّي الى وضع النقاش حول الأعباء الكبيرة التي شكّلها هؤلاء على المجتمع اللبناني واقتصاده الصعب جانباً.
• وفي اليمن، أعلنت روسيا فجأة سحب طاقمها الديبلوماسي، ونقله الى الرياض، في خطوة تمّ تبريرُها بالمخاطر الأمنية، فيما هي تشكّل عمَلياً عاملاً ضاغطاً على الحوثيّين لدفعهم ربما إلى القبول بالتسوية السلمية. والمعروف أنّ روسيا تقف على الحياد في النزاع اليمني، وهو حياد أقرب الى السعودية منه الى خصومها.
• وعلى مستوى باكستان، ستُخفض الولايات المتحدة الأميركيّة مساعداتها المالية والتي كان قد تمّ إقرارُها عقب هجمات 11 أيلول، وبعد إقرار اتفاقات حملت طابع التعاون الأمني لمكافحة الإرهاب في أفغانستان. وتردَّد يومها أنّ الجيش الباكستاني والمخابرات ساعدا كثيراً في تعقّب رجال «القاعدة»، ما سهَّل اصطيادهم بواسطة طائرات «الدرونز».
ولكنّ تخفيض المساعدات المالية الآن سيَعني التخفيف من مستوى التعاون الأمني في أفغانستان التي شهدت عودة نفوذ «طالبان» إليها، واستقرار عناصر «داعش» الهاربين من العراق وسوريا، وربما من الأفضل القول الذين تمّ توجيهُهم للفرار الى أفغانستان، مع الإشارة هنا الى الحدود المشتركة الأفغانية - الإيرانية، وبالتالي إلزام إيران بالإنشغال بحدودها الشرقية.
• توسيع النفوذ الإيراني جنوب دمشق وفي منطقة لا تبعد كثيراً من الحدود مع إسرائيل، ما يُشكّل جسرَ تواصل للنفوذ الإيراني بين المنطقة الجنوبيّة لسوريا وجنوب لبنان.
• تعزيز تركيا حضورها العسكري للمرة الأولى منذ قيام دولة أتاتورك، وذلك في قطر والسودان، حيث طمحت بقوة وما تزال الى نفوذ في أفريقيا.
• تخفيض المساهمة المالية الأميركية في موازنة الأمم المتحدة بنسبة تفوق العشرين في المئة، ما يعني تراجع قدرات المنظمة الأممية في بعض السّاحات الدولية، وتعزيز دور واشنطن في الإمساك بمهمّات الأمم المتحدة اكثر.